الكلية الفيثاغورثية :

 
أسس فيثاغورث مدرسة في موطنه الأصلي ساموس , ثم هرب نتيجة الاستبداد و الأوضاع السياسية السيئة إلى كروتونا و هي مستعمرة يونانية في جنوب إيطاليا
 , و هناك أسس فيثاغورث نظاماً تعليمياً رائعاً لم يكن موجوداً من قبل , حيث أنشأ كلية لثلاثمائة طالب , واضعاً منهجاً دراسياً مميزاً لهم يتناسب مع حاجات كل جنس ( الذكور , الإناث ) غايته الارتقاء بفكر الطالب و عقله و فضائله نحو الكمال .

أعطى فيثاغورث الأهمية لكمال الفضيلة في النفس و فضَّلها على التدريب الفكري المجرد و دراسة العلوم الأخرى في منهاجه .. و كم نحن اليوم بحاجة إلى مثل هذا النوع من التفضيل .. فالفكر و العلم دون فضيلة يكون لعنة لا نعمة .

كان هدف فيثاغورث النهائي كمال المجتمع الإنساني من خلال الإصلاح الاجتماعي و السياسي , فتلاميذه الفيثاغورثيين كانوا هم رسله إلى مدن أوروبا , و كان يجهزهم كقادة اجتماعيين و إصلاحيين مستقبليين , فالمجتمع الفاضل برأيه يجب أن يحكم من قبل الفلاسفة و العلماء و ليس من قبل السياسيين الجهلة .

بنى فيثاغورث نظامه التعليمي على العلم المقدِس للحياة , واضعاً نمطاً للتقدم المعرفي يمر به الطالب و يرتقيه درجة درجة .

قسم فيثاغورث كليته إلى معابد , و سمى كل معبد باسم آلهة معينة , يختص فيه بدراسة علم أو فن معين , فكان علم النجوم و الفلك يُدرَّس في معبد الآلهة أورانيا مثلاً , كذلك كان للآلهة الأخرى معابدها و علومها .

سمح فيثاغورث للنساء بالدخول إلى كليته و الانتساب إليها لطلب الحكمة , الأمر الذي لم يكن معمولاً به من قبل , فالحكماء الأقدم منه لم يقبلوا أن يعلموا النساء و اقتصروا في تعليمهم على الذكور , و طبقاً لهذا فقد قسم فيثاغورث تلامذته إلى صنفين : الفيثاغورثيين و الفيثاغورثيات , طبق فيثاغورث تعاليمه الحياتية على تلامذته فكان الجميع يعيشون بشكل مشترك مع بعضهم البعض كعائلة كبيرة , كل المقتنيات كانت ملكية للجميع , بالمقابل سمح فيثاغورث لتلامذته بالملكية الشخصية و الحق بالخصوصية متى رغب أحدهم بذلك .

كانت الفيثاغورثية حركة تخدم الأنوثة ، وكان بعض عمالها الأكثر نشاطاً نسوة . علّم فيثاغورث تلامذته الإناث علم الحياة العائلية ، وعلّم تحسين النسل , كانت زوجة فيثاغورث نفسها فيلسوفة ، و كانت المرشد للفيثاغورثيات في الكلية .

تم تخريج أكثر من ثلاثين امرأة كفيلسوفات عظيمات فيثاغورثيات ، أثناء فترة دامت ألف سنة تقريباً ، وهذا رقم قياسي لم تحققه أية حركة من الحركات الفلسفية الأخرى . إلا أن ذلك انقطع فجأة ، مع حكم الإعدام الذي نفذ بقساوة بالمرأة الفيلسوفة العظيمة الأخيرة ، وهي هيباثيا من الإسكندرية ، التي ألقي القبض عليها عند مغادرتها قاعة محاضراتها ، حيث قام رهبان غوغائيون متعصبون ، بإنزالها من عربتها وذلك بأمر من ( سيريل ) رئيس أساقفة مدينة الإسكندرية آنذاك ، و قطعوا أوصال جسدها بشكل وحشي , في كنيسة مسيحية .
وقد رُفّع سيريل إثر ذلك إلى مرتبة أعلى من مرتبته كرئيس أساقفة واعتبر قدّيساً فيما بعد .

كان فيثاغورث صارماً جداً فيما يتعلق بانتساب التلاميذ إلى مدرسته ، قائلاً : " ليس كل خشب يمكن أن يكون صالحاً لصنع الزئبق " .

ففي البداية يحضر المرشح إلى مبنى مخصص للألعاب الرياضية ، يلعب المبتدئون فيه ألعاباً مناسبة لأعمارهم . كان هذا المبنى مميزاً بأنه لا يوجد فيه تبجّح ، أو ضجة ، أو عروضاً للقوة , بل كان مكاناً لممارسة التلاميذ ( المنتسبين الجدد ) الرياضة الجسدية ، و كان فيثاغورث ينظم محادثاتهم و ألعابهم ، و يراقبهم عن كثب ليشكل فكرة دقيقة عن الأخلاق والمؤهلات للمريد ( التلميذ المنتسب ) المستقبلي .

بعد هذا يتم الاختبار بأن يقضي التلميذ ليلة كاملة ( حتى طلوع الفجر ) في كهف كبير عند حدود المدينة , زُعم أن فيه حيوانات مخيفة وأشباح تتردد عليه .

رفض فيثاغورث جميع المنتسبين الذين رفضوا الدخول إلى الكهف أو الذين حاولوا الهرب قبل حلول الفجر , لأنه اعتبرهم أضعف من أن يطَّلِعوا على المعرفة المبدئية .

يأتي بعد ذلك اختبار الفضيلة و العقل , حيث يحتجز المريد في غرفة ، ويعطى لوحاً إردوازياً ( حجرياً ) للكتابة ، ويؤمر أن يحل المعنى لرمز فيثاغورثي ما ، كمثال : " لماذا يكون الإثنا عشريّ السطوح مقيداً في الجسم الكروي، الرمز للعالم ؟ " يجلس المريد ساعات عديدة في الخلوة المنفردة ، و يقدم له الماء و بعض الخبز المجفف ، بعدئذٍ يُنقل التلميذ من الغرفة ، فإما أن يمتدحه المبتدئون ، إذا نجح في فهم الرمز ، أو يتم إبعاده على نحو يثير السخرية بدون رحمة ، إذا أخفق في ذلك .

و كان فيثاغورث يقف على مقربة من المكان ، و يراقب موقف الشاب و تعابيره . فإذا بَدَرَ من هذا الشاب ما يدل على الغضب أو التعصب أو فقد رباطة جأشه ، رُفض .

التلميذ الناجح في الاختبار يقبل في الكلية و يتم إهماله ثلاث سنوات مع دوام المراقبة لمزاجه و لتوقه للدراسة .

عند نهاية هذا الاختبار يطلب من المريد الصمت خمس سنوات , فبقدر ما يكون متحكماً و مسيطراً على لسانه بقدر ما يكون انتصاره عظيماً .

إذا نجح المريد في هذا الاختبار الأخير اعتبر فيثاغورثياً و أصبح من حقه أن يتعلم و يطلع على الحكمة و العلوم الفيثاغورثية .

أما إن رُفض فإنه يُعطى ضعف ثروته التي كانت لديه عند الانتساب ثم يبني الفيثاغورثيون له ضريحاً كما لو أنه قد توفي , و إذا قابلوه فيما بعد يعاملونه كغريب لم يسبق لهم أن عرفوه .

يبدأ البرنامج اليومي للكلية الفيثاغورثية بمراقبة شروق الشمس , و هذه عادة فيثاغورثية طقسية , مرتدين ثيابهم البيضاء حصراً , بعد سير الصباح يستحم التلاميذ و يزاولون الرياضة و من ثم يتقدمون إلى المعابد مشكلين جماعات حول الأسياد ( السابقين في العلم ) لبدء الدراسة , ثم يجتمعون لتناول الغداء المؤلف من الخبز – العسل – الزيتون , بعد الظهر يمارسون الرياضة و يدرسون ما أعطي لهم صباحاً , ثم يتناولون وجبة المساء المكونة من الخضار حصراً و يصلون عند الغروب , ثمّ يقرأ التلميذ الأفتى سناً نصوصاً مقررة في حين يقدّم الأكبر سنّاً منهم الشروحات عليها .

امتنع الفيثاغورثيون عن أكل اللحم وشرب النبيذ بشكل كامل ، لأنهم اعتبروهما " معاديين لقوة التعقل ويعوقان نشاطاتها " .

يلبس الفيثاغورثيون ثياباً بيضاء نقية أثناء النهار، وفي الليل يستلقون على سرير أبيض ناصع ، تحت أغطية مصنوعة من الخيطان بدلاً من الصوف ، وفي كل الطرائق يحافظون على مزاولة النظافة بعناية .

يستنبط الفيثاغورثيون كل أعمال النهار في الصباح ، قبل أن ينهضوا ، ويختبرونها في الليل قبل أن يناموا ، وهكذا فإنهم مرنوا الذاكرة بواسطة هذا الفعل المضاعف . لقد كانوا يتصورون أن هذا الفعل هو شيء أساسي ليستبقوا في الذاكرة كل الذي تعلموه ، وأن الدروس والعقائد يجب أن تنال هذا الاهتمام ، إلى أن يكونوا قادرين على أن يتذكروا كل ما تعلموه .

كان هدف التعليم الفيثاغورثي تطوير شخصيات تلاميذه الإنسانية و تجهيزهم كقادة مستقبليين للحضارة الجديدة ، لتُحكم هذه الحضارة بمتخرجين من مدرسته ، وهذه المرحلة ، طبقاً للتفكير الفيثاغورثي ، تكون المهنة الأكثر مسؤولية وأهمية من كل المهن ، وتحتاج لنوع من التحضير التعليمي السامي ، كما أنها تحتاج لمؤهلات مناقبية من أجل إنجازها وفعاليتها الناجحة .

خلّد أفلاطون أخيراً نظريات فيثاغورث في علم الاجتماع ، مقترحاً حكومة يديرها الحكماء ، بدل أن يحكمها السياسيون .

ففي "جمهوريته" ، يصف أفلاطون جمهورية مصاغة على موازاة الخطط الفيثاغورثية ، محكومة بملك فيلسوف تم تدريبه بشكل خاص منذ الطفولة ، بما يؤهله لمنصبه ، على قاعدة الفكرة القائلة بأنه قبل أن يكون أي شخص مناسباً ليحكم الآخرين ، بادئ ذي بدء ، عليه أن يتعلم كيف يحكم نفسه . فمن خلال الحمية النباتية غير المسرفة ، ومن خلال التدريب المناقبي الدقيق جداً ، كان مفترضاً أن يكتسب الميزات التي يلزم أن يمتاز بها الحاكم المثالي ، كي يمكنه أن يكون مكرساً من القلب إلى الخير العام ، وأن يقتني المقدرة ليحكم بالعقل . إن ما عبر عنه أفلاطون كنظرية ، وضعه فيثاغورث موضع التطبيق و الممارسة قبل ذلك بزمن طويل ، لأن تلاميذه أصبحوا حكاماً- فلاسفة حقيقيين لعدة مدن- دول في إيطاليا ، وحتى في ما يقوله أفلاطون ، فإن أرخيتاس الفيثاغورثي كان لا يزال يحكم مدينة تارنتوم .

إن تصور فيثاغورث لحكومة يرأسها خبراء متعلمون مؤهلون بشكل خاص ، قد أعيد إحياؤه في صيغة ما بواسطة حكومة الفنيين ، فكما تحكم الخلايا للأعضاء المتنوعة في الجسم ، هكذا في رأي فيثاغورث ، يجب أن تكون حكومة الدولة حاملة علاقة مشابهة إلى شعوبها ، كونها حكومة علمية مثلما هي إنسانية ، بمعنى أنها لم تكن حكومة أوليغاركية أنانية ، بل كانت مكرسة بإخلاص للخير العام الأعظم وللعدد الأكبر من الناس ، وكانت خادمة لهم .

نجح فيثاغورث في إشادة بناء على قمة مشرفة على مدينة كروتونا ، اعتبر مدينة نموذجية مصغرة ، كانت كلية وجالية في وقت واحد ، وكان هو على رأسها ، كفيلسوف ملك ، حكمها بالحكمة والنزوع إلى عمل الخير ، وليس بالأمر و الجبر أو بالقوة و التهديد .

إن إدراك فيثاغورث لحكومة يحكمها العقلاء ، و رجال الفضيلة ، النخبة ، التي بسطها أفلاطون في فهمه لـ "الملك الفيلسوف" ، كانت مضادة للفكرة الشعبية عن الديموقراطية ، تتلخص نظرية فيثاغورث السياسية بأن الحكومة ينبغي أن تكون للشعب ، مثلما يكون الأب العاقل للطفل ، وكما أن الطفل لا يعرف ما يكون الأفضل له غالباً ، وهو غير قادر على أن يختار أبويه الخاصين به ، فإن أفراد الجماهير الجاهلة الميالين و المنقادين بسهولة للساسة الدهمائيين تحت تأثير الخطابة وحدها ، لا يعرفون ما تكون منفعتهم الخاصة غالباً .

إن المعارضة لحركة فيثاغورث الجديدة من أجل الإصلاح الاجتماعي والسياسي ، و التي ارتفعت بسبب اعتراضه على ما يدعى بحكم الغوغاء الديموقراطي , وتأييده لحكومة تحكم بواسطة تلاميذ مدرسته ، قادت أعداءه إلى تدمير حركته ، تحت ذريعة أنه تعمّد تشييد أوليغاركية فكرية ، و أنه يعارض المثاليات للحرية الديموقراطية .

مارست هذه المدينة النموذجية تأثيراً هائلا على إيطاليا كلها ، بما أن المثل الحي كان أكثر قوة من نظرية مجردة ، وتبنت المثل المدن الإيطالية الأخرى ، فالمدينة التي أبدعها فيثاغورث سكنها الرجال والنساء الأحرار ، الذين لم يكن لديهم عبيد أبداً . و حكمت بهداية الحكماء الذين احترمهم وأطاعهم هؤلاء الأحرار اختيارياً ، وتمتعوا بالحرية التامة مما ألهم المدن الأخرى في إيطاليا السفلى حب الحرية فكسبت لقب : " المدن الحرة " بعد أن قبلت عقيدة فيثاغورث المثالية ، إلى أن تم سحقها بالاستبدادية الرومانية , وهكذا ابتلع المسخ الروماني الإمبريالي هذه المدن الفيثاغورثية الحرة ، فأخضعت واستعبد قاطنوها من قبل الفيالق الرومانية .

نتيجة التأثير الهائل للأفكار الجديدة التي وضعها و صاغها فيثاغورث في محاضراته العامة أمام سكان مدينة كروتونا , فإن ألفي مواطن في مدينة كروتونا تخلوا عن أسلوب حياتهم و مدنيتهم المعتاد , واتحدوا ليشكلوا مجتمعاً زراعياً , عاشوا فيه كلهم معاً في حالة أخوية , مالكين كل الأشياء بصفة مشتركة .

و قد حدث الشيء عينه في الأجزاء وفي اليونان أيضاً , حيث ظهرت المجتمعات المؤسسة للأخوة الفيثاغورثية في كل مكان , والمؤلفة من الرفاق الفيثاغورثيين الذين كرسوا أنفسهم لتعاليمه . ولم يطل الوقت حتى كسب الفيثاغورثيون السيطرة على الشؤون التشريعية في أكثرية دول المدن في إيطاليا السفلى .

إن حلم فيثاغورث ومثاليته في إقامة حضارة جديدة ونظام جديد للحكومة محكوم بالعلماء والحكماء , كان شيئاً مدركاً ومحققاً , فمن إيطاليا الجنوبية انتشرت الحركة الجديدة للإصلاح السياسي حتى اليونان الكبرى , و أُرسل الفيثاغورثيون في بعثات إلى المدن اليونانية كلها تقريبا , لغرض إنشاء المدارس , وإحلال المستشارين الفيثاغورثيين والعلماء والفلاسفة محل الحكومات الموجودة .

كانت الحركة ناجحة جداً لأنها نشأت في مرحلة كانت فيها المؤسسات السياسية القديمة قد بدأت تفسد , مثيرة اشمئزاز الناس , مما جعل الشعب يرحب بالحكومات الفيثاغورثية الجديدة , بدلاً من الحكومات الجشعة المحبة لكسب المال و اختزانه .

إن الحضارة العلمية الجديدة , التي كانت حكوماتها تهتدي بتوجيه الحكماء بدلاً من توجيه السياسيين , وهي الحضارة التي أنشأها فيثاغورث , في كل مكان من إيطاليا السفلى خلال القرن السادس قبل الميلاد , بقيت حية لربع قرن من الزمان , لم تهدأ أبداً محاولة بعث نظام متقدم للحكومة والتنظيم الاجتماعي , ولو أن هذه الحضارة بقيت حية , فإنها كانت ستبشر بولادة عصر ذهبي جديد من السلام , من التقدم والسعادة للجنس البشري , لكن أعداءها , الذين شعروا بأن منفعتهم الخاصة في خطر , كانوا أقل اهتماماً بالخير العام . فتحالفوا بعددهم و عدتهم ضدها , مما أدى إلى سقوط وتدمير هذا الاختبار الاجتماعي العظيم , الذي حاول فيثاغورث القيام به .

أضف تعليق